الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الفصل في الملل والنحل **
قال أبو محمد: اختلف قوم في أي الأمرين أفضل الفقر أم الغنى. قال أبو محمد: وهذا سؤال فاسد لأن تفاضل العمل والجزاء في الجنة إنما هو العامل لا الحالة محمولة فيه إلا أن يأتي نص بتفضيل الله عز وجل حالا على حال وليس هاهنا نص في فضل إحدى هاتين الحالتين على الأخرى. قال أبو محمد: وإنما الصواب أن ي قال أيما أفضل الغني أم الفقير والجواب هاهنا هو ما قال ه الله تعالى إذا يقول " قال أبو محمد: والغنى نعمة إذا قام بها حاملها بالواجب عليه فيها وأما فقراء المهاجرين فهم كانوا أكثر وكان الغني فيهم قليلا والأمر كله منهم وفي غيرهم راجع إلى العمل بالنص والإجماع على أنه تعالى لا يجزي بالجنة على فقر ليس معه عمل خير ولا على غنى ليس معه عمل خير وبالله التوفيق.
قال أبو محمد: ذهب قوم إلى أن الاسم هو المسمي و قال آخرون الاسم غير المسمى واحتج من قال أن الاسم هو المسمى بقول الله تعالى " قال أبو محمد: أما قوله تعالى " قال أبو محمد: وهذا قول يؤدي من اتبعه وطرده إلى الكفر المجرد لأنهم قطعوا أن الاسم مشتق من السمو وقطعوا أن الاسم هو الله نفسه فعلى قولهم المهلك الخبيث أن الله يشتق و أن ذاته نفسها مشتقة وهذا ما لا ندري كافرا بلغه والحمد لله على ما من به من الهدي وأيضا فإن الله تعالي يقول " قال أبو محمد: فلا يخلو أن يكون الله عز وجل علم آدم الاسماء كلها كما قال عز وجل إما بالعربية وإما بلغة أخرى أو بكل لغة فإن كان عز وجل علمه الأسماء بالعربية فإن لفظة اسم من جملة ما علمه لقوله تعالي الأسماء كلها ولأمر تعالى آدم بأن يقول للملائكة أنبئوني بأسماء هؤلاء فلا يجوز أن يخص من هذا العموم شيء أصلاً بل هو لفظ موقف عليه كسائر الأسماء ولا فرق وهو من جملة ما علمه الله تعالى آدم عليه السلام إلا أن يدعوا أن الله تعالى لشتقه فالقوم كثيرا ما يستسهلون الكذب على الله تعالى والإخبار عنه بما لا علم لهم به فصح يقينا أن لفظة الاسم لا اشتقاق لها وإنما هي اسم مبتدأ كسائر الأسماء والأنواع والأجناس وأن كان الله تعالى علم آدم الأسماء كلها بغير العربية فإن اللغة العربية موضوعة للترجمة عن تلك اللغة بدل كل اسم من تلك اللغة اسم من العربية موضوع للعبارة عن تلك الألفاظ وإذا كان هذا فلا مدخل للاشتقاق في شيء من الأسماء أصلاً لا لفظة اسم ولا غيرها وإن كان تعالى علمه الأسماء بالعربية وبغيرها من اللغات العربية فلفظة اسم من جملة ما علمه وبطل أن يكون مشتقا أصلاً والحمد لله رب العالمين فبطل قولهم في اشتقاق الاسم وعاد حجة عليهم وبالله تعالى التوفيق وأما بيت لبيد فإنه يخرج على وجهين أحدهما أن السلام اسم من أسماء الله تعالى قال ى تعالى " قال أبو محمد: فسقط كل ما شغب به القائلون بأن الاسم هو المسمى وكل قول سقط احتجاج أهله وعري عن البرهان فهو باطل ثم نظرنا فيما احتج به القائلون أن الاسم غير المسمى فوجدناهم يحتجون بقول الله تعالى " قال أبو محمد: وهذا برهان ضروري لازم ورأيت لمحمد بن الطيب الباقلاني ولمحمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني أنه ليس لله تعالى إلا اسم واحد فقط. قال أبو محمد: وهذا معارضة وتكذيب لله عز وجل وللقرآن ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ولجميع العالمين ثم عطفا فقال ا معنى قول الله عز وجل ولله الأسماء الحسنى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لله تسعة وتسعين اسما إنما هو التسمية لا الأسماء. قال أبو محمد: وكان هذا التقسيم أدخل في الضلال من ذلك الإجمال ويقال لهم فعلى قولكم هذا أراد الله تعالى أن يقول لله التسميات الحسنى فقال الأسماء الحسنى وأراد رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول أن لله تسعة وتسعين تسمية فقال تسعة وتسعين اسما أعن غلط وخطأ قال الله تعالى ذلك ورسوله صلى الله عليه وسلم أم عن عمد ليضل بذلك أهل الاسلام أم عن جهل باللغة التي تنبهتما لها أنتما ولا بد من أحد هذه الوجوه ضرورة لا محيد عنها وكلها كفر مجرد ولا بد لهم من أحدها أو ترك ما قال وه من الكذب على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم هذا ودعواهم في ذلك ظاهر الكذب بلا دليل ولا يرضي بهذا لنفسه عاقل. الاسم على المسمى فهي شىء ثالث غير الاسم وغير المسمى فذات الخالق تعالى هي الله المسمى والتسمية هي تحريكنا عضل الصدر واللسان عند نطقنا بهذه الحروف وهي غير الحروف لأن الحروف هي الهواء المندفع بالتحريك فهو المحرك بفتح الراء والإنسان هو المحرك بكسر الراء والحركة هي فعل المحرك في دفع المحرك وهذا أمر معلوم بالحس مشاهد بالضرورة متفق عليه في جميع اللغات واحتجوا أيضا بقول الله تعالى " قال أبو محمد: وموهوا فقالوا فأسماء الله عز وجل إذا مخلوقة إذ هي كثيرة وإذ هى غير الله تعالى قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق أن كنتم تعنون الأصوات التي هي حروف الهجاء والمداد المخطوط به في القراطيس فما يختلف مسلمان في أن كل ذلك مخلوق وإن كنتم تريدون الإيهام والتمويه بإطلاق الخلق على الله تعالى فمن أطلق ذلك فهو كافر بل أن أشار مشير إلى كتاب مكتوب فيه الله أو بعض أسماء الله تعالى أو إلى كلامه إذ قال يا الله أو قال بعض أسمائه عز وجل فقال هذا مخلوق أو هذا ليس ربكم أو تكفرون بهذا لما حل لمسلم إلا أن يقول حاشا الله من أن يكون مخلوقا بل هو ربي وخالقي أؤمن به ولا أكفر به ولو قال غير هذا لكان كافرا حلال الدم لأنه لا يمكن أن يسأل عن ذات الباري تعالى ولا عن الذي هو ربنا عز وجل وخالقنا والذي هو المسمى بهذه الأسماء ولا إلى الذي يخبر عنه ولا إلى الذي يذكر إلا بذكر اسمه ولا بد فلما كان الجواب في هذه المسألة يموه أهل الجهل بإيصال ما لا يجوز إلى ذات الله تعالى لم يجز أن يطلق الجواب في ذلك البتة إلا بتقسيم كما ذكرنا وكذلك لو كتب إنسان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم أو نطلق بذلك ثم قال لنا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أم ليس رسول الله وتؤمنون بهذا أن تكفرون به لكان من قال ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أكفر به كافرا حلال الدم بإجماع أهل الاسلام ولكن نقول بل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نؤمن به ولا يختلف اثنان في الصوت المسموع والخط المكتوب ليس هو الله ولا رسول الله وبالله تعالى التوفيق فإن قال وا أن أحمد بن حنبل وأبا زرعة عبيد الله بن عبد الكريم وأبا حاتم محمد بن إدريس النظلي الراويين رحمهما الله تعالى إن الاسم هو المسمي قلنا لهم هؤلاء رضي الله عنهم وإن كانوا من أهل السنة ومن أئمتنا فليسوا معصومين من الخطأ ولا أمرنا الله عز وجل بتقليدهم واتباعهم في كل ما قال وه وهؤلاء رحمهم الله أراهم اختيار هذا القول قولهم الصحيح أن القرآن هو المسموع من القرآن المخطوط في المصاحف نفسه وهذا قول صحيح ولا يوجب أن يكون الاسم هو المسمى على ما قد بينا في هذا الباب وفي باب الكلام في القرآن والحمد لله رب العالمين وإنما العجب كله ممن قلب الحق وفارق هؤلاء المذكورين حيث أصابوا وحيث لا يحل خلافهم وتعلق بهم حيث وهموا من هؤلاء المنتمين إلى الأشعرية القائلين بأن القرآن لم ينزل قط إلينا ولا سمعناه قط ولا نزل به جبريل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الذي في المصاحف هو شيء آخر غير القرآن ثم أتبعوا هذه الفكرة الصلعاء بأن قال وا إن اسم الله هو الله وأنه ليس إلا اسم واحد وكذبوا الله تعالى ورسوله في أن لله أسماء كثيرة تسعة وتسعين ونعوذ بالله من الخذلان. قال أبو محمد: ولو أن إنساناً يشير إلى كتاب مكتوب فيه الله فقال هذا ليس ربي وأنا كافر بهذا لكان كافراً ولو قال هذا المداد ليس ربي وأنا كافر بربوبية هذا الصوت لكان صادقاً وهذا لا ينكر وإنما نقف حيث وقفنا ولو أن إنساناً قال محمد رسول الله رحمه الله لم يبعد من الاستخفاف فلوا قال اللهم أرحك محمد وآل محمد لكان محسناً ولو أن إنساناً يذكر من أبويه العضو المستور باسمه لكان عاقاً أتى كبيرة وإن كان صادقاً وبالله تعالى التوفيق. والكلام في هل يعقل الفلك والنجوم أم لا قال أبو محمد: زعم قوم أن الفلك والنجوم تعقل وأنها ترى وتسمع ولا تذوق ولا تشم وهذه دعوى بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل مردود عند كل طائفة بأول العقل إذ ليست أصح من دعوى أخرى تضادها وتعارضها وبرهان صحة الحكم بأن الفلك والنجوم لا تعقل أصلاً هو أن حركتها أبداً على رتبة واحدة لا تتبدل عنها وهذه صفة الجماد المدبر الذي لا اختيار له فقالوا الدليل على هذا أن الأفضل لا يختار إلا الأفضل للعمل فقلنا لهم ومن أين لكم بأن الحركة أفضل من السكون الاختياري لأننا وجدنا الحركة حركتين اختيارية واضطرارية ووجدنا السكون سكونين اختيارياً واضطرارياً فلا دليل على أن الحركة الاختيارية أفضل من السكون الاختياري ثم من لكم بأن الحركة الدورية أفضل من سائر الحركات يميناً أو يساراً أو أمام أو وراء ثم من لكم بأن الحركة من شرق إلى غرب كما يتحرك الفلك الأكبر أفضل من الحركة من غرب إلى شرق كما تتحرك سائر الأفلاك وجميع الكواكب فلاح أن قولهم مخرقة فاسدة ودعوى كاذبة مموهة و قال بعضهم لما كنا نحن نعقل وكانت الكواكب تدبرنا كانت أولى بالعقل والحياة منا فقلنا هاتان دعوتان مجموعتان في نسق أحدهما القول بأنها تدبرنا فهي دعوى كاذبة بلا برهان على ما نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى والثاني الحكم بأن من تدبرنا أحق بالعقل والحياة منا فقد وجدنا التدبير يكون طبيعياً ويكون اختيارياً فلو صح أنها تدبرنا لكان تدبيراً طبيعياً كتدبير الغذاء لنا وكتدبير الهواء والماء لنا وكل ذلك ليس حياً ولا عاقلاً بالمشاهدة وقد أبطلنا الآن أن يكون تدبير الكواكب لنا اختيارياً بما ذكرنا من جريها على حركة واحدة ورتبة واحدة لا تنتقل عنها أصلاً وأما القول بقضايا النجوم فإنا نقول في ذلك لائحاً ظاهراً إن شاء الله تعالى. قال أبو محمد: أما معرفة قطعها في أفلاكها وآناء ذلك ومطالعها وأبعادها وارتفاعاتها واختلاف مراكز أفلاكها فعلم حسن صحيح رفيع يشرف به الناظر فيه على عظيم قدرة الله عز وجل وعلى يقين تأثيره وصنعته واختراعه تعالى للعالم بما فيه وفيه الذي يضطر كل ذلك إلى الإقرار بالخالق ولا يستغني عن ذلك في معرفة القبلة وأوقات الصلاة وينتج من هذا معرفة رؤية الأهلة لفرض الصوم والفطر ومعرفة الكسوفين برهان ذلك قول الله تعالى " وأما القضاء بها فالقطع به خطأ لما نذكره إن شاء الله تعالى وأهل القضاء ينقسمون قسمين أحدهما القائلون بأنها والفلك عاقلة مميزة فاعلة مدبرة دون الله تعالى أو معه وأنها لم تزل فهذه الطائفة كفار مشركون حلال دماؤهم وأموالهم بإجماع الأمة وهؤلاء عني رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول أن الله تعالى قال أصبح من عبادي كافر بي مؤمن بالكواكب وفسره رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه القائل مطرنا بنوء كذا وكذا وأما من قال بأنها مخلوقة وأنها غير عاقلة لكن الله عز وجل خلقها وجعلها دلائل على الكوائن. فهذا ليس كافراً ولا مبتدعاً وهذا هو الذي قلنا فيه أنه خطأ لأن قائل هذا إنما يحيل على التجارب فما كان من تلك التجارب ظاهراً إلى الحس كالمد والجزر الحادثين عند طلوع القمر واستوائه وأفوله وامتلائه ونقصانه وكتأثير القمر في قتل الدابة الدبرة إذا لاقى الدبرة ضوءه وكتأثيره في القرع والقثاء المسموع لنموها مع القمر صوت قوي وكتأثيره في الدماغ والدم والشعر وكتأثير الشمس في عكس الحر وتصعيد الرطوبات وكتأثيرها في أعين السنانير غدوة ونصف النهار وبالعشي ونصف الليل وسائر ما يوجد حساً فهو حق لا يدقعه ذو حس سليم وكل ذلك خلق الله عز وجل فهو خلق القوي وما يتولد عنها ويوجد بها كما قال تعالى "
أهو المخلوق نفسه أم غيره وهل فعل الله من دون الله تعالى هو المفعول أم قال أبو محمد: ذهب قوم إلى أن خلق الشيء هو غير الشيء المخلوق واحتج هؤلاء بقول الله عز وجل " قال أبو محمد: ثم نسأل من قال أن خلق الشيء هو غير الشيء فنقول له أخبرنا عن خلق الله تعالى لما خلق أمخلوق هو أيضاً أم غير مخلوق فلا بد من أحد الأمرين فإن قال وا هو غير مخلوق أوجبوا بإزاء كل مخلوق شيئاً موجوداً غير مخلوق وهذا مضاهاة لقول الدهرية والبرهان قد قام بخلاف هذا و قال تعالى " قال أبو محمد: وكل من دون الله تعالى فعله هو مفعوله نفسه لا غير لأنه لا يفعل أحد دون الله تعالى إلا حركة أو سكوناً أو تأثيراً أو معرفة أو فكرة أو إرادة ولا مفعول لشيء دون الله تعالى إلا ما ذكرنا فهي مفعولات الفاعلين وهي أفعال الفاعلين ولا فرق وما عدا هذا فإنما هو مفعول فيه كالمضروب والمقتول أو مفعول به كالسوط والإبرة وما أشبه ذلك أو مفعول له كالمطاع والمخدوم أو مفعول من أجله كالمكسوب والمحلوب فهذه أوجه المفعولات. قال أبو محمد: وأما سائر أفعال الله تعالى فبخلاف ما قلنا في الخلق بل هي غير المفعول فيه أوله أو به أو من أجله وذلك كالأحياء فهو غير المحيا بلا شك وكلاهما مخلوق لله تعالى وخلقه تعالى لكل ذلك هو المخلوق نفسه كما قلنا وكالا ماتة فهي غير الممات ولو كان غير هذا وكان الأحياء هو المحيا والإماتة هي الممات وبيقين ندري أن المحيا هو الممات نفسه لوجب أن يكون الأحياء هو الإماتة وهذا محال وكالإبقاء فهو غير المبقي للبرهان الذي ذكرنا وبيقين ندري أن الشيء غير أعراضه التي هي قائمة به وقتاً وفانية عنه تارة وبالله تعالى التوفيق.
والمعاني التي يدعيها معمر والأحوال التي تدعيها الأشعرية وهل المعدوم شيء أم ليس شيئاً ومسئلة الأجزاء وهل يتجدد خلق الله للأشياء أم لا يتجدد قال أبو محمد: ذهب قوم إلى أن البقاء والفناء صفتان للباقي والفاني لا هما الباقي ولا الفاني ولا هما غير الباقي والفاني. قال أبو محمد: وهذا قول في غاية الفساد لأن القضية الثانية بنقيض الأولى والأولى بنقيض الثانية لأنه إذا قال ليست هي فقد أوجب أنها غيره وإذا قال ليست غيره فقد أوجب أنه هو وهذا تناقض ظاهر وأيضاً فإنه لا فرق بين قول القائلين ليس هو هو ولا غيره وبين قوله هو هو وهو غيره والمعنى في تلك القضيتين سواء وأيضاً فلو كان البقاء ليس هو الباقي ولا هو غيره والفناء ليس هو الفاني ولا هو غيره فالباقي هو الفاني نفسه والباقي ليس هو الباقي ولا غيره وهذا مزيد من الجنون ومن التناقض وذهب معمر إلى أن الفناء صفة قائمة بغير الفاني. قال أبو محمد: وهذا تخبيط لا يعقل ولا يتوهم ولا يقوم عليه دليل أصلاً وما كان هكذا فهو باطل والحقيقة في ذلك ظاهرة وهي أن البقاء هو وجود الشيء وكونه ثابتاً قائماً مدة زمان ما فإذ هو قائم كذلك فهو صفة موجودة في الباقي محمولة فيه قائمة به موجودة بوجوده فانية بفنائه وأما الفناء فهو عدم الشيء وبطلانه جملة وليس هو شيئاً أصلاً والفناء المذكور ليس موجوداً البتة في شيء من الجواهر وإنما هو عدم العرض فقط كحمرة الخجل إذا ذهبت عبر عن المعنى المراد بالإخبار عن ذهابها بلفظة الفناء كالغضب يفنى ويعقبه رضاً وما أشبه ذلك لو شاء الله عز وجل أن يعدم الجواهر لقدر على ذلك ولكنه لم يوجد ذلك إلى الآن ولا جاء به نص فيقف عنده فالفناء عدم كما قلنا.
قال أبو محمد: وقد اختلف الناس في المعدوم أهو شيء أم لا فقال أهل السنة وطوائف من المرجئة كالأشعرية وغيرهم ليس شيئاً وبه يقول هشام بن عمرو الغوطي أحد شيوخ المعتزلة و قال سائر المعتزلة المعدوم شيء و قال عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخياط أحد شيوخ المعتزلة أن المعدوم جسم في حال عدمه إلا انه ليس متحركاً ولا ساكناً ولا مخلوقاً ولا محدثاً في حال عدمه. قال أبو محمد: واحتج من قال بأن المعدوم شيء بان قال وا قال عز وجل إن زلزلة الساعة شيء عظيم فقالوا فقد أخبر الله عز وجل بأنها شيء وهي معدومة ومن الدليل على أن المعدوم شيء أنه يخبر عنه ويوصف ويتمنى ومن المحال أن يكون ما هذه صفته ليس شيئاً. قال أبو محمد: أما قول الله عز وجل " قال أبو محمد رضي الله عنه: ونسألهم ما معنى قولنا شيء فلا يجدون بداً من أن يقولوا أنه الموجود وأن يقولوا هو كل ما يخبر عنه فإن قال وا هو الموجود صاروا إلى الحق وإن قال وا هو كل ما يخبر عنه قلنا لهم إن المشركين يخبرون عن شريك الله عز وجل قال تعالى " قال أبو محمد: وهذا معدوم لا مدخل له في الحقيقة واسم لا مسمى تحته فإن قال وا إن شركاء الله تعالى أشياء كانوا قد أفحشوا وأيضاً فإنه قد اتفقت جميع الأمم لا نحاشي أن المعدوم ليش شيئاً أو لا شيء أو ما يعبر به في كل لغة عن شيء ومن لا شيء إلا أن المعنى واحد فلو كان المعدوم شيئاً لكان ما أجمعوا عليه بلا شيء وليس شيئاً ولم يكن شيئاً باطلاً وهذا رد على جميع أهل الأرض مذ كانوا إلى أن يفنى العالم فصح أن الموجود هو الشيء فإذ هو الشيء فبضرورة العقل أن اللاشيء هو المعدوم ثم نسألهم أتقولون أن المعدوم عظيم أو صغير أو حسن أو قبيح أو طويل أو قصير أو ذو لون في حال عدمه فإن أبوا من هذا تناقض قولهم وسئلوا عن الفرق بين قولهم أنه شيء وبين قولهم أنه حسن او قبيح أو صغير أو كبير وكيفقالوا أنه شيء ثم قال وا أنه ليس حسناً ولا قبيحاً ولا صغيراً وكبيراً فإن قال وا نعم أوجبوا أن المعدوم يحمل الأعراض والصفات وهذا تخليط ناهيك به وسئلوا فيماذا يحمل الصفات أفي ذاته أو فيما ذا فإن قال وا في ذاته أوجبوا أنه له ذاتاً وهذه صفة الموجود ضرورة وإن قال وا بل يحمل الصفات في غيره كان ذلك أيضاً عجباً زائداً لا خفاء به. قال أبو محمد: ونسألهم هل الإيمان موجود من أبي جهل أو معدوم فإن قولهم بلا شك أنه معدوم منه. فنسألهم عن إيمان أبي جهل المعدوم حسن هو أم قبيح. فإن قال وا لا حسن ولا قبيح قلنا لهم أيكون يعقل إيمان ليس حسناً هذا عظيم جداً. وإن قال وا بل هو حسن أوجبوا أنه حاصل للحسن وكذلك نسألهم عن الكفر المعدوم من الأنبياء عليهم السلام أقبيح هو أم لا. فإن قال وا لا أوجبوا كفراً ليس قبيحا. وإن قال وا بل هو قبيح أوجبوا أن المعدوم يحمل الصفات ونسألهم عن ولد العقيم المعدوم منه أصغير هو أم كبير أم عاقل أم أحمق. فإن منعوا من وجود شيء من هذه الصفات له كان عجباً أن يكون ولد لا صغير ولا كبير ولا حي ولا ميت وإن وصفوه بشيء من هذه الصفات أتوا بالزيادة من المحال ونسألهم عن الأشياء المعدومة ألها عدد أم لا عدد لها. فإن قال وا لا عدد لها كانوا قد أتوا بالمحال إذ أقروا بأشياء لا عدد لها. وإن قال وا بل لها عدد كان ذلك عجباً جداً أو محالاً لا خفاء به وسألناهم عن الأولاد المعدومين من العاقر والعقيم كم عددهم. ونسألهم عن الأشياء المعدومة أهي في العالم ومن العالم أم ليست في العالم ولا من العالم فإن قال وا هي في العالم ومن العالم سألناهم عن مكانها فإن حددوا لها مكاناً سخفوا ما شاؤا وإن قال وا لا مكان لها قيل لهم وكيف يكون شيء في العالم لا مكان له فيه ولا حامل. قال أبو محمد: ويلزمهم أن المعدومات إذا كانت أشياء لا عدد لها ولا نهاية ولا مبدأ فإنها لم تزل وهذه دهرية محققة وكفر مجرد أن تكون أشياء لا تحصى كثرة لم تزل مع الله تعالى ونعوذ بالله من مثل هذا الهوس. قال أبو محمد: وقد ادعوا أن المعدوم يعلم وهذا جهل منهم بحدود الكلام لا سيما ممن أقر بأن المعدوم لا شيء وادعى مع ذلك أنه يعلم فألزمناهم على ذلك أنهم يعلمون لا شيء وأن الله تعالى يعلم لا شيء فجسر بعضهم على ذلك فقلنا لهم إن قولك علمت لا شيء وعلم الله تعالى لا شيء ملائم لقولك لم أعلم شيئاً ولقولك لم يعلم الله تعالى شيئاً لا فرق بين معنى القضيتين البتة بل هما واحد وإن اختلفت العبارتان وإذ هو كذلك فقد صح أن المعدوم لا يعلم فإن ألزمنا على هذا وسألنا هل يعلم الله تعالى الأشياء قبل كونها أم لا قلنا لم يزل الله تعالى يعلم أن ما يخلقه أبداً إلى ما لا نهاية له فإنه سيخلقه ويرتبه على الصفات التي يخلقها فيها إذا خلقه وأنه سيكون شيئاً إذا كونه ولم يزل عز وجل يعلم أن ما لم يخلق بعد فليس هو شيئاً حتى يخلقه ولم يزل تعالى يعلم أنه لا شيء معه وأنه ستكون الأشياء أشياء إذا خلقها لأنه تعالى إنما يعلم الأشياء على ما هي عليه لا على خلاف ما هي عليه لأن من علمها على خلاف ما هي عليه فلم يعلمها بل جهلها وليس هذا علماً بل هو ظن كاذب وجهل وبرهان هذا قول الله عز وجل " ثم نسألهم هل يعلم الله تعالى لحية الأطلس وقنا الأفطس أم لا يعلم ذلك وهل يعلم الله تعالى أولاد العقيم وإيمان الكافر وكفر المؤمن وكذب الصادق وصدق الكاذب أم لا يعلم شيئاً من ذلك. فإن قال وا إن الله تعالى يعلم كل ذلك كانوا قد وصفوا الله تعالى باجهل وأنه يعلم الأشياء بخلاف ما هي عليه. وإن قال وا أنه تعالى لا يعلم للعقيم أولاداً وإنما يعلمه لا ولد له ولا يعلم لحية الكلام في المعاني على معمر قال أبو محمد: وأما معمر ومن اتبعه فقالوا أنا وجدنا المتحرك والساكن فأيقنا أن معنى الحدث في المتحرك به فارق الساكن في صفته وإن معنى حدث في الساكن به أيضاً فارق المتحرك في صفته وكذلك علمنا أن في الحركة معنى به فارقت السكون وإن في السكون معنى به فارق الحركة وكذلك علمنا أن في ذلك المعنى الذي به خالفت الحركة السكون معنى به فارق المعنى الذي به فارقه السكون وهكذا أبداً أوجبوا أن في كل شيء في هذا العالم من جوهر أو عرض أي شيء كان معاني فارق كل معنى منها كل ما عداه في العالم وكذلك أيضاً في تلك المعاني لأنها أشياء موجودة متغايرة وأوجبوا بهذا وجود أشياء في زمان محدود في العالم لا نهاية لعددها. قال أبو محمد: هذه جملة كل ما شغبوا به إلا أنهم فصلوها ومدوها في الكفر والكافر والإيمان والمؤمن وفي غير ذلك مما هو المعنى الذي أوردناه بعينه ولا زيادة فيه أصلاً. قال أبو محمد: وهذا ليس شيئاً لأننا نقول لهم وبالله تعالى التوفيق العالم كله قسمان جوهر حامل وعرض محمول ولا مزيد ولا ثالث في العالم غير هذين القسمين هذا أمر يعرف بضرورة العقل وضرورة الحس فالجواهر مغايرة بعضها لبعض بذواتها التي هي أشخاصها يعني بالغيرية فيها وتختلف أيضاً بجنسها وهي أيضاً مفترق بعضها من بعض بالعرض المحمول في كل حامل من الجواهر وأما الأعراض فمغايرة للجواهر بذواتها بالغيرية فيها وكذلك هذه أيضاً بعضها مغاير لبعض بذواتها وبعضها مفارق لبعض بذواتها وإن كان بعض الأعراض أيضاً قد تحمل الأعراض كقولنا حمرة مشرقة وحمرة كذرة وعمل سيئ وعمل صالح وقوة شديدة وقوة دونها في الشدة ومثل هذا كثير إلا أن كل هذا يقف في عدد متناه لا يزيد وهذا أمر يعلم بالحس والعقل فالمتحرك يفارق الساكن هذا بحركته وهذا بسكونه والحركة تفارق السكون بذاتها ويفارقها السكون بذاته وبالنوعية والغيرية والحركة إلى الشرق تفارق الحركة إلى الغرب بكون هذه إلى الشرق وبكون هذه إلى الغرب بذاته وبالغيرية فقط وهكذا في كل شيء فكل شيئين وقعا تحت نوع واحد مما يلي الأشخاص فإنهما يختلفان بغيريتهما فإن كانا وقعا تحت نوعين فإنهما يختلفان بالغيرية في الشخص وبالغيرة في النوع أيضاً والغيرية أيضاً لها نوع جامع لجميع أشخاصها إلا أن كل ذلك واقف عند حد من العدد لا يزيد ولا بد ثم نسألهم خبرونا عن المعاني التي تدعونها في حركة واحدة أيما أكثر أهي أم المعاني التي تدعونها في حركتين فإن أثبتوا قلة وكثرة تركوا مذهبهم وأوجبوا النهاية في المعاني التي نفوا النهاية عنها وإن قال وا إلا قلة ولا كثرة هاهنا كابروا وأتوا بالمحال الناقض أيضاً لأقوالهم لأنهم إذا أوجبوا للحركة معنى أوجبوا للحركتين معنيين وهكذا أبداً فوجبت الكثرة والقلة ضرورة لا محيد عنها. قال أبو محمد: فلم يكن لهم جواب أصلاً إلا أن بعضهم قال أخبرونا أليس الله تعالى قادراً على أن يخلق في جسم واحد حركات لا نهاية لها. قال أبو محمد: فجواب أهل الإسلام في هذا السؤال نعم وأما من عجز ربه فأجابوا بلا فسقط هذا السؤال عنهم وكان سقوط الإسلام عنهم بهذا الجواب أشد من سقوط سؤال أصحاب معمر. قال أبو محمد: فتمادى سؤالهم لأهل الحق فقالوا فأخبرونا أيما أكثر ما يقدر الله تعالى عليه من خلق الحركات في جسمين أو ما يقدر عليه من خلق الحركات في جسم واحد فكان جواب أهل الحق في ذلك أنه لا يقع عدد على معدوم ولا يقع العدد إلا على موجود معدود والذي يقدر الله تعالى عليه ولم يفعله فليس هو بعد شيئاً ولا له عدد ولا هو معدود ولا نهاية لقدرة الله تعالى وأما ما يقدر عليه تعالى ولم يفعله فلا ي قال فيه أن له نهاية ولا أنه لا نهاية له وأما كل ما خلق الله تعالى فله نهاية بعد وكذا كل ما يخلق فإذا خلقه حدثت له نهاية حينئذ لا قبل ذلك وأما المعاني التي تدعونها فإنكم تدعون أنها موجودة قائمة فوجب أن يكون لها نهاية فإن نفيتم النهاية عنها لحقتم بأهل الدهر وكلمناكم بما كلمناهم به مما قدر ذكرنا قبل وبالله تعالى التوفيق ثم لو تثبت لكم هذه العبارة من قول القائل أن ما يقدر الله تعالى عليه لا نهاية لعدده وهذا لا يصح بل الحق في هذا أن نقول أن الله تعالى قادر على أن يخلق ما لا نهاية له في وقت ذي نهاية ومكان ذي نهاية ولو شاء أن يخلق ذلك في وقت غير ذي نهاية وكان غير ذي نهاية لكان قادراً على كل ذلك لما وجب من ذلك إثبات ما ادعيتم من وجود معان في وقت واحد لا نهاية لها إذ ليس هاهنا عقل يوجب ذلك ولا خبر يوجب ذلك وإنما هو قياس منكم إذ قلتم لما كان قادراً على أن يخلق ما لا نهاية له قلنا أنه قد خلق ما لا نهاية له فهذا قياس والقياس كله باطل ثم لو كان القياس حقاً لكان هذا منه باطلاً لأنه بزعمكم قياس موجود على معدوم وقياس وتشبيه لما قد خلقه بزعمكم على ما لم يخلقه وهذا في غاية الفساد ولا فرق بينكم في هذا القياس الفاسد وبين من يقول أن في بلد كذا قوماً يشمون من عيونهم ويسمعون من أنوفهم ويذوقون من آذانهم ويبصورون من ألسنتهم فإذا كذب في ذلك وسئل برهاناً على دعواه قال أتقرون أن الله قادر على خلق ذلك فقلنا له نعم قال فهذا دليل على صحة دعواي بل أنتم أسوأ حالاً لأن هذا أخبر عن متوهم لو كان كيف كان يكون فأنتم أتخبرون عن غير متوهم في النفس ولا متشكل في العقل وهو إقراركم بوجود معان لا نهاية لعددها في وقت واحد. قال أبو محمد: فبطل هذا القول الفاسد والحمد لله رب العالمين وكان يكفي من بطلانها أنها دعوى لا برهان على صحتها وهي دعوى فاسدة غير ممكنة بل هي محال لا يتوهم ولا يتشكل وبالله تعالى التوفيق.
|